كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا: هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال أكثر أهل العلم: إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحدّ، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوّج بأم من زنا بها وبابنتها.
وقالت طائفة من أهل العلم: إن الزنا يقتضي التحريم، حكي ذلك عن عمران بن حصين والشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وحكى ذلك عن مالك، والصحيح عنه كقول الجمهور.
احتج الجمهور بقوله تعالى: {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ}، وبقوله: {وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ}. والموطوءة بالزنا لا يصدق عليه أنها من نسائهم ولا من حلائل أبنائهم.
وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: «لا يحرم الحرام الحلال»، واحتج المحرّمون بما روي في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال: «يا غلام من أبوك؟ فقال فلان الراعي» فنسب الابن نفسه إلى أبيه من الزنا، وهذا احتجاج ساقط.
واحتجوا أيضا بقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لا ينظر اللّه إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ولم يفصل بين الحلال والحرام». ويجاب عنه بأن هذا مطلق مقيد بما ورد من الأدلة الدالة على أن الحرام لا يحرّم الحلال.
ثم اختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري: إذا لاط بالصبيّ حرمت عليه أمه! وهو قول أحمد بن حنبل، قال: إذا تلوّط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته.
وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها لأنها بنت من قد دخل به.
ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف والسقوط النازل عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم.
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}: أي وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين فهو في محل رفع عطفا على المحرمات السابقة، وهو يشمل الجمع بينهما بالنكاح والوطء بملك اليمين.
وقيل: إن الآية خاصة بالجمع في النكاح لا في ملك اليمين. وأما في الوطء بالملك اليمين فلا حق بالنكاح، وقد اجتمعت الأمة على منع جمعهما في عقد النكاح.
واختلفوا في الأختين بملك اليمين: فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك فقط، وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك.
واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك.
فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوّج أختها.
وقال الشافعي: مالك اليمين لا يمنع نكاح الأخت.
وقد ذهبت الظاهرية إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، كما يجوز الجمع بينهما في الملك.
قال ابن عبد البر- بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك-: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس ولكنهم اختلف عليهم ولم يلتفت أحد إلى ذلك من فقهاء الأمصار بالحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءها من المشرق ولا بالشام ولا المغرب إلا من شذّ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس، وقد ترك من تعمد ذلك.
وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح، وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} إلى آخر الآية أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهنّ سواء، فكذلك يجب أن يكون قياسا ونظر الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب، وكذلك هو عند جمهورهم وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. واللّه المحمود انتهى.
وأقول: هاهنا إشكال وهو أنه قد تقرّر أن النكاح يقال على العقد فقط، وعلى الوطء فقط، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازا، وكونهما حقيقتين معروف: فإن حملنا هذا التحريم المذكور في هذه الآية وهي قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} إلى آخر الآية، على أن المراد تحريم العقد عليهنّ لم يكن في قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك؟ وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ} إلخ يستوي في الحرائر والإماء، والعقد، والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف، وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض، وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك للإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أوّل الآية إلى آخرها فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل، ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور، فالحق لا يعرف الرجال، فإن جاء به خالصا عن شوب الكدر فيها ونعمت، وإلا كان الأصل الحل، ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعا أعني العقد والوطء لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوع، أو من باب الجمع بين معنى المشترك، وفيه الخلاف المعروف في الأصول فتدبر هذا.
واختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ أختها أيضا بالملك؟ فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرّم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق أو بأن يزوجها.
قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة: وهو أنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها، ثم يمسك عنهما حتى تستبرئ المحرمة ثم يغشى الثانية.
وفيه قول ثالث وهو أنه لا يقرب واحدة منهما، هكذا قاله الحكم وحماد. وروي معنى ذلك عن النخعي.
وقال مالك: إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكفّ عن الأخرى موكول إلى أمانته. فإن أراد وطء الأخرى يلزمه أن يحرّم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو عتق أو كتابة أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى من دون أن يحرّم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرّم الأخرى ولم يوكل ذلك إلى أمانته لأنه متهم.
قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها إنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدة المطلقة، واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها فقالت طائفة: ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدّة التي طلق. روي ذلك عن علي عليه السلام وزيد بن ثابت ومجاهد وعطاء والنخعي والثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي.
وقالت طائفة: له أن ينكح أختها وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع وطلق واحدة منهنّ طلاقا بائنا يروى ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد. قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك. وهو أيضا إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت وعطاء.
وقوله: {إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} يحتمل أن يكون معناه معنى ما تقدم من قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ}، ويحتمل معنى آخر، وهو جواز ما سلف وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا، وإذا جرى في الإسلام خيّر بين الأختين، والصواب الاحتمال الأول.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)} بكم فيما سلف قبل النهي وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ عطف على المحرّمات المذكورات. وأصل التحصن التمنع، ومنه قوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أي: لتمنعكم، والحصان: المرأة العفيفة لمنعها نفسها، والمصدر الحصانة بفتح الحاء، والمراد بالمحصنات هنا ذوات الأزواج.
وقد ورد الإحصان في القرآن بمعان، هذا أحدها.
والثاني: يراد به الحرّة. ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ}، وقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
والثالث: يراد به العفيفة، ومنه قوله تعالى: {مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ}، وقوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ}.
والرابع: المسلمة، ومنه قوله تعالى: {فَإِذا أُحْصِنَّ} أي أسلمن.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية هنا فقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قلابة ومكحول والزهري: المراد بالمحصنات هنا: المسبيات ذوات الأزواج خاصة، أي هنّ محرّمات عليكم {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال، وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي: أي أن السبي يقطع العصمة وبه قال ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
واختلفوا في استبرائها بماذا يكون؟ كما هو مدوّن في كتب الفروع.
وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية العفائف، وبه قال أبو العالية وعبيدة السلماني وطاووس وسعيد بن جبير وعطاء، رواه عبيدة عن عمر. ومعنى الآية عندهم:
كل النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم، أي تملكون عصمتهنّ بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء. وحكى ابن جرير الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا؟ فقال: كان ابن عباس لا يعلمها. وروى ابن جرير أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل. انتهى.
ومعنى الآية- واللّه أعلم- واضح لا سترة به: أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء: أي المزوجات، أعمّ من أن يكنّ مسلمات أو كافرات إلا ما ملكت أيمانكم منهنّ. أما بالسبي فإنها تحلّ ولو كانت ذات زوج، أو شراء فإنها تحلّ ولو كانت متزوجة. وينفسخ النكاح الذي كان عليها لخروجها عن ملك سيدها الذي زوجها، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} منصوب على المصدرية: أي كتب اللّه ذلك كتابا.
وقال الزجاج والكوفيون: إنه منصوب على الإغراء، أي الزموا كتاب اللّه. وهو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} إلخ. {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ}: وفيه دليل على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.
ومن ذلك نكاح المعتدة، وكذلك نكاح أمة على حرّة، وكذا القادر على الحرة، وكذلك تزوج خامسة، وكذا الملاعنة للملاعن وقيل: لا حاجة إلى التنبيه على هذا فإن الكلام في المحرمات المؤبدة، وما ذكر محرمات لعارض ممكن الزوال. نعم يظهر ذلك في الملاعنة فانظر.
وقد أبعد من قال: إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه لأنه حرّم الجمع بين الأختين، فيكون ما في معناه في حكمه: وهو الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وكذلك تحريم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرّة فإنه يخصص هذا العموم.
{أَنْ تَبْتَغُوا} في محل نصب على العلة: أي حرّم عليكم ما حرّم وأحلّ لكم ما أحلّ لأجل أن تبتغوا {بِأَمْوالِكُمْ} النساء اللاتي أحلهنّ اللّه لكم ولا تبتغوا به الحرام فيذهب، حال كونكم {مُحْصِنِينَ}: أي متعففين عن الزنا {غَيْرَ مُسافِحِينَ} أي غير زانين.
والسفاح: الزنا، وهو مأخوذ من سفح الماء: أي صبه وسيلانه. فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح، لا على وجه السفاح. وقيل: إن قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ} بدل من {ما} في قوله: {ما وَراءَ ذلِكُمْ} أي: وأحلّ لكم الابتغاء بأموالكم. والأوّل أولى. وأراد اللّه سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء.